صفحة من صفحات أمتنا البيضاء طويت مع ما طوي قبلها من صفحات ، وكلها صفحات من نور ، وورقة أخرى من ورقات شجرة الحياة سقطت بعد ما سقط قبلها – فسقط بسقوطها علم وهوى بهويها نجم بل قمر، وانطفأت شمس طالما أضاءت الطريق إلى الله تعالى .
إنه الفقيد الذي ارتبط اسمه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يذكر إلا ويذكر معه ، العالم الذي بزّ لداته ، وفاق أقرانه ، وتميز حتى صار شامة في جبين الصحوة المعاصرة ، والعلم الذي أحيا مكانة السنة الصحيحة ، وأوضح أثرها في حياة نهضة الأمة ، وفضح السنة المنحولة ، وحذّر منها وبيَّن ضعيفها وسقيمها .
إنه الساعي الحثيث في إعلاء شأن الحديث ، العالم الرباني، والعلامة الجهبذ ، والمحدث الكبير ، ناصر السنة ، وقامع البدعة الشيخ الفاضل : أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الألباني رحمه الله وأسكنه فسيح جناته .
مولده ونشأته
ولد الشيخ سنة 1332هـ في مدينة أشقودرة عاصمة ألبانيا آنذاك – لأسرة فقيرة وكان بيته بيت علم ، فوالده رحمه الله من كبار علماء الحنفية في ألبانيا .
نزح الشيخ مع والده إلى سوريا فراراً من حكم الهالك أحمد زوغو الذي حول ألبانيا إلى دولة علمانية تحارب الإسلام وأهله .. وفي سوريا بدأ دراسته الابتدائية ، وحفظ القرآن على يد والده وأخذ عنه كثيراً من الفقه الحنفي ، كما قرأ الشيخ على الشيخ سعيد البرهاني مراقي الفلاح وشذور الذهب وبعض كتب البلاغة، ومنحه الشيخ محمد راغب الطباخ محدث حلب إجازة في الحديث .
تعلّم الألباني مهنة تصليح الساعات من والده وأتقنها، وبها كان يتكسب رزقه .
توجه الشيخ للحديث وولَّى وجهه شطره ، وكانت البداية مقالاً نشره الشيخ رشيد رضا في مجلته “المنار” عن كتاب إحياء علوم الدين للغزالي ، وبيّن فضله وقيمته لولا ما فيه من أحاديث ضعيفه وموضوعه ، ثم ما فعله العراقي من نقد هذه الأحاديث والحكم عليها .
وبعد أن قرأ الألباني المقال ذهب إلى سوق المسكية بدمشق واستأجر الكتاب – إذ لم يكن بمقدوره شراؤه – ثم نسخ كل الأحاديث وبجوار كل حديث تعليقات العراقي عليه ، حتى جمعها في كتاب خالص ، كان هو مدرسته الأولى التي عليها تتلمذ وبها تخرج .
علو الهمة
كما هو حال كل علماء الأمة العظام ، كان الصبر على العلم والهمة والنهمة في طلبه ، والمحافظة على الوقت لأقصى درجة ، وإمضاؤه في القراءة والبحث والتنقيب ، أو في التأليف والتقييد .
كذلك كان شيخنا – رحمه الله – يكتفي بعمل ساعة في اليوم أو ساعتين فيحصل قوته وأولاده ثم ينطلق إلى المكتبة الظاهرية لينكب على الكتب والمخطوطات دراسة وبحثاً وتنقيباً ، فربما قضى فيها خمس عشرة ساعة كل يوم ، وربما بقي بعد انتهاء الدوام فيطلب منه الموظفون أن يغلق الأبواب خلفه ، ومن جميل ما يذكر أنه كان أحياناً يصعد على السلم ليلتقط كتاباً من على الرف فيبقى على السلم ساعة يقرأ وقد نسي نفسه من شغفه بالقراءة .
مدرسة جديدة
استطاع الشيخ بتوفيق الله له أن يؤسس مدرسة جديدة في علم الحديث ، كان أهم معالمها تنقية السنة الشريفة مما يعرف عن العلماء بالحديث المردود ( الموضوع والضعيف بأقسامه)، وألف رحمه الله كتبا خصصها للأحاديث الصحيحة وأخرى للضعيفة، وعمل على عزل الصحيح عن الضعيف في كتب السنة ـ كما فعل في الكتب الستة وغيرها ، وخرج أحاديث بعض الكتب ، ونقد نصوصا حديثة في الثقافة الإسلامية ، ودافع عن الحديث النبوي والسيرة بالرد على من تجرؤا عليهما .. إلى غير ذلك من جهوده المميزة التي جعلته بحق مدرسة في علم الحديث تذكر بجهود الأولين في حفظ سنة سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم .
ومما لا ينبغي إغفاله أنه قد تخرج على يدي الشيخ رحمه الله أعداد غفيرة من طلبة العلم الذين اشتغلوا بهذا العلم الشريف على منهجه في كل البلاد ، فكانوا بإذن الله صدقة جارية تبقى في صحائف الشيخ مع مؤلفاته إلى يوم الدين .
مؤلفاته
وقد بارك الله في حياة الشيخ ووقته وعلمه فألف التآليف الماتعة، وألقى المحاضرات والدروس النافعة ، وانتشرت كتبه في كل مكان حتى انتفع بها القاصي والداني ، وصارت دواوين للسنة يرجع إليها المبتدؤون والمتخصصون ، ويعزو إليها الكاتبون والمؤلفون والمحققون ، وجمع الله كلمة الناس على فضله في هذا العلم ، واقر له الكثير بطول الباع فيه ، فأقر الله عينه بهذه المؤلفات ، كما نفع بها جموع المسلمين.
ومن مؤلفاته النافعة الماتعة : –
1-إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل ولعله من أنفع كتبه .
2- سلسلة الأحاديث الصحيحة .
3- سلسلة الأحاديث الضعيفة .
4- تلخيص أحكام الجنائز .
5- صفة صلاة النبي ( وهو من أول مؤلفاته وأكثرها انتشاراً ونفعاً ) .
6- حجة النبي صلى الله عليه وسلم .
7- الحديث حُجّة بنفسه .
8- ظلال الجنة في تخريج أحاديث السنة لابن أبي عاصم .
9- تحقيق مشكاة المصابيح .
10- تحريم آلات الطرب .
إضافة إلى الكثير والكثير من الكتب التي خرَّج أحاديثها ، والمؤلفات التي أمتع بها ونفع بها . فله أكثر من مائة كتاب ما بين صغير وكبير .
وهو رحمه الله من المكثرين تأليفاً وتحقيقاً رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً .
درّس الشيخ في الجامعة الإسلامية لمدة ثلاث سنوات بداية من 1383هـ ، وبترشيح من الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة ، ثم عاد إلى سوريا ومنها إلى الأردن .
وفي سنة 1419هـ حصل على جائزة الملك فيصل العالمية ، فرع الدارسات الإسلامية ، نظير جهده واجتهاده وتفانيه في خدمة الإسلام ، والعناية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثناء العلماء عليه
وقد أثنى العلماء على الشيخ رحمه الله ثناءً حسناً .
فمن ذلك قول الشيخ ابن باز رحمه الله – لا نعلم أحدًا أعلم بالحديث منه يعني الألباني وقال : ماتحت أديم السماء عالم بالحديث في العصر الحديث ( فيما نعلم ) مثل العلامة محمد ناصر الدين الألباني .
وسمعت الشيخ صالح بين عثيمين وقد ذكر الشيخ أمامه بسوء فقال :
أقلُّوا اللَّوم لا أبا لأبيكم عليه أو سدُّوا المكان الذي سدَّا
ثم قال : أشهد أن الشيخ الألباني كان عالماً محدثاً فقيهاً ولكن غلب عليه الحديث أكثر، لا أقول إنه معصوم ولكنه إمام . أو نحوه .
وتكفي شهادة هذين العالمين الإمامين للدلالة على فضل الألباني ومكانته – رحمه الله.
أولاده
رزق الشيخ بسبعة أولاد وست بنات ، وقد تزوج من أربعة نسوة .
وفاته
وفي مساء السبت 22/6/1420هـ ، وفي إحدى مستشفيات عمان عاصمة الأردن ، أسلم الشيخ روحه إلى باريها بعد صراع مع المرض دام عامين ، وقد شيعه وصلى عليه خلق كثير .
رحم الله الشيخ الألباني، وغفر له، وأسكنه فسيح جناته، ونضر وجهه بخدمته للسنة، وأخلف على المسلمين خيرًا منه. آمين.